الخيمة الكبرى / الطلبه محمد بن احماده

الخيمة الكبرى في فحمة ليلة من ليالي الصيف الساخنة و بعد يوم وهيج أمضيت جله في المكتبة أجمع شتات صور من الخواطر المفككة ، استهواني النوم فصعدت سطح المنزل، و استلقيت على حصير هناك ، فاستقلت بي الأحلام و عاودتني ذكريات الخيمة الكبرى. هناك ، في مدى الأفق البعيد ، حيث يذوب الواقع و يستفيق الخيال ، تراءى لي ، فيما يشبه هَلْوَسَة الأحلام ، شبح خيمة كبيرة من الصوف الأسود ، تتوسط مجموعةَ خيام من قماش قطني أبيض. في تلك الخيام ناس يسترسلون في سبات عميق و آخرون يتقلبون في مضاجعهم وأعينهم شاخصة، تتنقل بهم الذكريات في مسالك المجهول، ذكريات ماض دهستها عجلات الأيام وطمرتها، أشلاء ممزقة، في متاهات التاريخ المعتمة.المخيم منصوب على كثيب رمل أبيض براق، يتلألأ تحت ضوء قمر منير فاتن في سمت سماء زرقاء مرصعة بالنجوم . يطل الكثيب على واد شاسع يتدفق فيه الماء العذب الثجاج وتغطيه الحدائق الغلب و الجنات الألفاف. الثمار دانية و البراعم تتفتق بالأزهار، و الأشجار فارعة، وارفة الظلال. يطوف بين شفوف تلك الظلال المتشابكة أنسام حالمة، طيبة العرف، لطيفة الأريج. قطعان الماشية ترعى بين الخمائل و أسراب الطير، ترفرف بأجنحتها في سماء مترامية الأطراف. صور من فن الجمال ترسم على جبين الطبيعة لوحة رومانتسية تؤجج العواطف و تهيج الأحلام و تستنهض شاعرية النفوس. أمام الخيمة الكبرى، غير بعيد من نهاية باحتها، توجد حظيرة دائرية الشكل شيدت من أغصان الشجر الشائكة. في زاوية من الحظيرة يقف، بين قطيع من المعز، تيس أرقش، طويل اللحية، طويل القرنين، ضخم الجثة، كأنه شبح مخيف. يستسلم العملاق لسبات عميق. في الزاوية الأخرى يوجد قطيع دَهْم من الضأن يقف وسطه كبش أبيض، أزرق العينين، له قرنان عظيمان مبرومان على شكل حلزوني و في رقبته قلادة من تبر منمق. قد ترمز إلى المكانة الخاصة التي يحتل في قلوب الرعاة. فالأشياء إذا كبرت في قلوبنا يترجمها الخيال الدافق مدفوعا بالعاطفة الصادقة إلى مُقدسات، تركن إليها النفس، تهواها ، تعظمها من وراء حجاب. هذا التعظيم الكامن في وجداننا قد يتجلى ـ ساعة هيجان النفس ـ في كلمات شعرية تتغنى بها الحناجر، أو حكايات منمقة تتسلى بها الأجيال، أو عَبَرات تذرَف على طلل دارس، و قد يترجم أحيانا بشهقات تُسمع في حرم مصارع العشاق. قد لا يوجد تباين جوهري بين الحالة الوجدانية لراع و سط روضة عاكف على كبش أقرن يقلده وسام الإجلال و التكريم و بين حالة عاشق أغبر جاث على ركبتيه يسكب الدمع على طلل بال محاه القطر و أجهزت عليه عواصف الزمان. كلا الرجلين يكتب قصة، يدون شعرا، يبعث رسالة، يغرد في صمت على حسابه الخاص.... وكلا هما يركب الخيال مجنحا يسمو بالروح بعيدا عن واقع المادة الخشن إلى دنيا اللطافة و الجمال ! خارج الحي، في مكان منعزل توسطت حظيرة العجاجيل مراح البقر. خارج الحظيرة تقف بقرة صفراء فاقعة اللون . تحاول المسكينة الولهى، من حين لآخر، اقتحام السياج الشائك لترضع مولودتها ابنت السبعة أيام. تفشل مرة تلو الأخرى. في كل مرة تعود القهقرى تحت لسعات الأشواك المدمية. أخيرا يتغلب اليأس على إرادة المسكينة، تستسلم لسلطان الواقع، تركن إلى مبركها ثم تبدأ تجتر ما كانت قد خبأته قديما للقادم المجهول. نامت المسكينة، و في المنام، ربما رأت نفسها تحلق بين المجنحات وهي تحتضن فِلذة كبدها بعيدا عن هيمنة الخيمة الكبرى و قبضة الأسوار الشائكة. يسمع صوت كالزئير قادم من أعماق دياجير المجهول، تتضاءل المسافة، يقترب شيئا فشيئا، يكبر، يدخل حقل المشاهدة، يظهر ثور أدهم ، عظيم البنية، يتبختر ثملا في مشيته. اجتاز الثور مرحلة دون توقف ثم توقف فجأة بين قطيع البقر الغاط في نومه، صاح مرات يطلب النزال، أثار الثرى برجليه فارتفع الغبار في السماء، نبش بقرنه الأيمن ثم الأيسر، عدا مسرعا، ركض بتهور، ولى مدبرا، أجاد في التمثيل. حاول الأدهم بكل قواه استدراج أنداده من الثيران إلى حلبة المصارعة فلم يفلح. يبدو أن قطيع الأنعام، ككل الكائنات الطاهرة، يستطيب الحياة الهادئة و يعاف منطق العنف و القوة و الاستعلاء. أمعن الجبار في تمريناته القتالية. واصل رقصة الأموات في سورة غضب و هيجان شديد. لقد استبدت به الأنانية الدفينة و الغُرور التليد. ظل مندفعا يستعرض عضلاته حتى إذا انتهى به المطاف إلى سدرة في منتهى الجانب الغربي من المراح خانته قواه و غلبه النعاس فالتحف أغصانها و افترش الأرض ثم أغمض عينيه ونام. نام الجبار الأدهم فعادت السكينة لحرم الخيمة الكبرى. فجأة خرج من قُنّهِ مندفعا كالسهم ـ و قد أطربته الأنوار الساطعة ـ ديك أبيض ناعم الريش، أحمر العرف قانئ كأن على رأسه تاج الملك. صفق الديك بجناحيه، مد عنقه، أغمض عينيه، ثم صاح في الآفاق فأفسد أحلام كلب رمادي اللون كان ينام خالي البال على دَكْداكٍ من الرمل باسطا ذراعيه إلى أثافيّ غطا ها الرماد. وثب الكلب مذعورا، تمدد ثم هرول مسرعا. طاف بالحظيرة ثم بالخيام. نصب أذنيه ، حرك ذيله ، نبح قليلا و سكت. بعد ذلك جلس على مقعدته و نصب رجليه الأماميتين فنبح بقوة و أطال النباح. ركض يمينا و شمالا كأنه في استعراض عسكري ثم عاد يلهث إلى مكانه و نام ملءَ عينيه متقوقعا. ينبح الكلب، تمر القافلة. في تلك اللحظات حدث حركة مضطربة داخل الخيمة الكبرى. من داخل الخيمة نهض من نومه شيخ مُسِن وَضِيءٌ في يده سبحة كأنها لؤلؤ الصدف أو جمان فارسي. صب الشيخ الماء في إناء من قِربة معلقة في الجانب الغربي من الخيمة ، خرج من الخيمة إلى الباحة ، نظر نظرة في السماء ، هز رأسه ، حوقل ثم تلا : (○ الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر، هل ترى من فطور ؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير ○)، ثم توضأ ثم قام يصلي. ما إن سلم الشيخ من قيامه حتى جلس بجانبه طفل في يده لوح من خشب مضبب بالنحاس مسطرة فيه آيات من الذكر الحكيم. في هدأة الليل و صمت الوجود، رفع الطفل صوته الملائكي مرتلا : (○ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا و مما رزقناهم ينفقون ، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ○) ، فتلقفها أصداء الغاب و نسيمٌ تائه كان يغازل جمال الطبيعة و الأغصانَ الراقصة على إيقاعات موسيقى وجدانية تتناغم و سينفونية الوسط البيئي الخلاب. إنه شبح الخيمة الكبرى يطوي الزمن ويعود من غَيابات التاريخ ليتجلى - في صولة الأحلام - و كأنه واقع محسوس.